بعد ليلة سوداء في أحد عروض مسرحية «غربة» (تأليف محمد الماغوط وإخراج خلدون المالح) والإعلان عن إصابة نهاد قلعي بشلل نصفي ثم إكمال تيسير السعدي الدور مكانه، أصرّ دريد لحاّم على أن يكون «حسني البورظان» ضمن فريق المسرحية في العرض المخصص للتصوير التلفزيوني. وكان أسامة الروماني أحد ممثلي العرض، قد روى لنا كيف تحمّس قلعي أثناء تحية الجمهور، وتمكّن من تحريك يده المشلولة لمرة واحدة وأخيرة، قبل أن يعجز عن ذلك بعدها، يقول: «دقّقوا في التصوير التلفزيوني الموجود في الأرشيف لتتأكدوا من صدق ما أرويه. لعل الحمّاس المفرط والطاقة الإيجابية التي أحيط بها لحظتها، جعلاه يحقق أشبه بمعجزة طبية. لكّنها هذه المرة المعجزة ستحصل في الوسط الفني السوري، وبطريقة أكثر سطوعاً وبصوت الراحلة مياّدة بسيليس (1967/2021) التي كان قد فتك المرض بجسدها مطلع هذا العام، وفقد الأطباء الأمل من أي تحسّن. كانت المغنية الحلبية القديرة قد اتفقت مع زوجها الملحّن والموّزع سمير كويفاتي أن تحيلا قصّة رواها لهم الأب إلياس زحلاوي إلى ترنيمة، لكن المرض كان أسرع. ظلّت صاحبة «كذبك حلو» تهجس بالعمل الذي لم ينجز، لكنها كانت أسيرة فراش المرض، إلى أن صحت ذات يوم قبل وفاتها بتسعة أيّام فقط وسط ذهول ودهشة الأطباء، وسجّلت الأغنية تحت عنوان «الوصية الأخيرة» مرّة غناء، وثانية كلاماً على خلفية كورال وموسيقى. الصوت بدا متلفاً. فقد حصّة وافرة من صلابته وثباته، كما أن مساحة يسيرة من ألقه خوت بذريعة المرض والجرعات الدوائية الكيمائية، والتهالك الصحي. لكّن بصمته لم تتغير. حنيّته زادت بشكل موجع. لم يكن في الصوت استجداء تعاطف، أو ضعف، بل اكتنز على عمق، كأنه سرّ يوغل في جوف الأرض. تحكي ميادة في هذه الأغنية الأخيرة عن ميرنا الفتاة التي أصيبت سنة 2004 بانخطاف فرأت يسوع، وكلّمته وقد حدث ذلك في الصوفانية في دمشق، وعاد ليتكرر الانخطاف ذاته سنة 2014 لتستمع ميرنا إلى وصية المسيح وهو يقول بأن الجراح التي نزفت في الشام هي عينها التي سالت من جسده، وبأن مصير أعداء الشام هو مصير يهوذا!، إضافة إلى مجموعة وصايا تحثّنا للترفّع عن المال والشهرة والشهوة، والتمسّك بالمنطق الشرقي!
«الوصية الأخيرة» هو عنوان الألبوم الذي تداوله الأصدقاء والمقرّبون من الراحلة، على يد سمير كويفاتي صاحب الألحان والتوزيع للألبوم كاملاً والذي توّزع بين مزامير وأدعية وترانيم كلها الوصية الأخيرة مشروحة بصوت إلياس زحلاوي ثم مغناة بصوت ميادة. هي ذاتها التي خشع الحضور عندما كان ترتّل بصوتها في مجلس عزائها، وها هي تحضر بعد شهور على رحيلها لتشدو بآخر بحة من صوتها في ذكراها!